كل شيء للبيع في سوريا حتى أولاد بديعة

لا جدوى من المبالغة في التفاؤل بواقع الدراما السورية. بعد 13 عاماً من الثورة السورية، أصبح الاصطفاف واضحاً في معظم جوانب المجتمع السوري، وبعد أن طرح الأسد كامل سوريا للبيع ليبقى في السلطة، نجد أن الدراما السورية سارت على خطاه وأصبحت أيضاً سلعة في سوق البيع.

العرب يستمتعون بقصص المأساة السورية

في جرد سريع  لبعض الإنتاجات الدرامية السورية الرمضانية لهذا العام 2024  كان من الواضح أن  المسلسلات الأكثر مشاهدةً وإثارةً للجدل هي تلك التي كانت مخصصة لتناول مواضيع معاصرة في حياة السوريين، وللأسف شاهدنا أنه مهما سلطت هذه المسلسلات الضوء على واقع العنف والفساد والدمار الشخصي والجماعي الذي أصاب النسيج الاجتماعي والإنساني السوري، فإننا نجد تهرباً واضحاً وتزييفاً صريحاً مباشراً للواقع و لطبيعة الصراع الحاصل، وانحياز قوي في تبني رواية النظام بكل مظاهرها  في حربه على المجتمع السوري بمختلف تنوعاته.

كيف وصلت هذه المسلسلات إلى شاشات التلفزيون والجمهور ومنصات العرض ومن يقف خلفها من جهات الإنتاج وكتاب السيناريو وفريق العمل الفني؟  إن فهم هذه الآليات، في كثير من الأحيان، يمكن أن يلقي الضوء على بعض الجوانب الخفية أو حتى المشبوهة في صناعة المسلسلات عموماّ والسورية خصوصاً طالما هي موضوع حديثنا هنا.

الطريقة الأكثر شيوعًا لإنتاج الأعمال الدرامية التلفزيونية هي أن تقوم القناة  التلفزيونية نفسها بإنتاج العمل الفني بالكامل، بشكل مباشر عبر كادرها الفني أو غير مباشر عبر الطلب من جهات إنتاجية منفذة، وبالتالي تكون مسؤولة وتتحكم في العمل بأكمله. يمر إنتاج المسلسل في  ثلاث مراحل رئيسية. المرحلة التحضيرية أو (ما قبل الإنتاج) وعناصرها الأساسية تشمل كتابة السيناريو واختيار الممثلين واختيار مواقع التصوير وتشكيل الطاقم الفني بما في ذلك الإخراج والتصوير، ثم تأتي المرحلة المهمة وهي (الإنتاج)  أو تصوير العمل، وغالبا ما تقتصر على فترة زمنية واضحة تتراوح ما بين  30 إلى 60 يوما. ثم تأتي مرحلة (ما بعد الإنتاج) وهي عملية تركيب المسلسل أو “المونتاج” واختيار الموسيقى واستكمال الأعمال الفنية من تصميمات جرافيك وتصحيح الألوان و هندسة الصوت وغيرها).

أما الطريقة الثانية لعرض الأعمال فهي عن طريق شراء الأعمال التلفزيونية الجاهزة. أي أن دور القناة  هو عرض المسلسل فقط دون المساهمة في إنتاجه، وفي هذه الحالة يكون أرخص ماليا، أي أن القناة تدفع ثمنه، مثل أي منتج مرئي، بسعر محدد. عندما تكون القناة التلفزيونية هي المسؤولة عن إنتاج الاعمال، فإنها عادةً تدفع وتنفق مبالغ كبيرة وميزانيات ضخمة. على عكس الشراء الجاهز المحدود الثمن والرخيص نسبياَ.

مسلسل تاج

إن مسلسل 'تاج' التاريخي، واضح أنه حظي بميزانية عالية لعدة أسباب أهمها التكلفة الباهظة للغاية لأعمال التصميم الجرافيكي التي حاولت خلق أجواء و بيئة الشام (دمشق) خلال فترة الاحتلال الفرنسي والاستقلال. أي بين العشرينيات والأربعينيات.. طبعا بالإضافة إلى أجور نجوم الممثلين من الصف الأول. لكن والحق يقال، كان وراء الأعمال الجرافيكي في المسلسل فريق عمل مجتهد أدى مهمته باحترافية عالية، لدرجة أن قوة مسلسل تاج كانت تكمن في البيئة المحيطة  بالأحداث و الشخصيات، وحتى أنها كانت 'البطل الرئيسي'  في العمل.  حتى أننا نرى أن قصة أحداث  المسلسل و أداء  كادر الممثلين كلها كانت تقريباً في خدمة البيئة. فلا الحبكة كانت قوية، ولا المسلسل كان متماسكاً، و بناء الشخصيات كان ضعيفاً،  وحدها «البيئة/اللوكيشين» كانت هي البطل. لقد انتابنا في كثير من الحلقات إحساس وكأننا نحضر عرضاً تلفزيونياً مباشراً من المتحف الحربي  القديم الواقع في منطقة المعرض بجانب التكية السليمانية. ورغم أن المسلسل كان مثيرًا للاهتمام و مسلياً أحياناً مع الكثير من التشويق، إلا أنه وقع في مطبات كثيرة. من المرجح أن يكون شخص ذو موهبة فنية محدودة ولكنه مُتَنَفِّذ للغاية هو من وقف وراء اقتراح المطربة (فايا يونان) كممثلة رئيسية في المسلسل.

مسلسل 'تاج' من إنتاج محطة MBC  المعروفة بقدراتها المالية العالية والمعروفة في توجهها، والقناة طلبت من شركة لبنانية (شركة علي الصباح  وإخوانه)  لتنفيذ هذا العمل  الذي يعرض أيضاً على منصة شاهد. فالحكاية سورية و الممثلين معظمهم سوريين و الكادر الفني سوري لكن الإنتاج سعودي و التنفيذ لبناني.

أولاد بديعة.. شركة إنتاج غير معروفة

على حين نجد أن مسلسل 'أولاد بديعة' من إنتاج شركة مجهولة اسمها PENTALENS ولها صفحة فيس بوك و إنستغرام بسيطة لا تقول شيئا عن أصحابها . من هم شركة  'بينتالينس' هل هم رجال أعمال؟ أم تجّار كبتاغون؟ أم هي شبكة غسيل أموال لضباط في القصر الجمهوري أو الفرقة الرابعة؟ لانعرف الكثير، لكننا نعرف أن أحد كتّاب السيناريو في هذا المسلسل له علاقات أكثر من وطيدة وقرابة مع أجهزة الأمن السوري، وأصبح من مشاهير كتّاب السيناريو في دمشق.  و أيضاً إذا عرفنا أن زوج مخرجة العمل هو أيضاً معروف بعلاقته الوثيقة مع الجهاز الأمني في دمشق عندها نفهم جيداً حجم العنف و'الاستهتار' بكافة القيم التي روج لها المسلسل، ولشدة دفاع هذا المسلسل عن سردية الأسد فهو على طريقة دس السم في العسل، تكاد تظن أن العمل تمت كتابته في أروقة مكاتب المخابرات في دمشق. 

صحيح أن ' أولاد بديعة ' كان عملا مسلّيا  في إطار 'شيق' على نمط موجة أفلام المخدرات و العنف التي سادت فترة في  منصة  نيتفليكس، لكن الفارق هنا أن 'أولاد بديعة' كان نموذجا لنمط التسلية الرخيصة الهابطة التي تتناول كل المواضيع الجادة لكي تفرغها من محتواها وتحولها إلى مهازل ولاسيما الموت. مسلسل مشبع بالموت الرخيص الذي يعبر تماما عن سردية الأسد في استسهال القتل ضد السوريين. وكل أنواع القتل والتضليل والسرقة والسطو  والتشبيح و التعفيش مسموحة ومغفورة في سوريا طالما كان 'أولاد بديعة' مخلصين  للدولة وولاؤهم لرئيسها المغوار.

على الرغم من أن موضوع 'أولاد بديعة' سوري والممثلون سوريون إلا أنه حاول أن يختط طريقا على نمط المسلسلات التركية من حيث الحبكة وأسلوب التصوير والإخراج ورسم وأداء الشخصيات وحتى ملابسهم، بل أنهم انتقلوا  لمنطقة كانت مصنعاً سابقاً للأحذية للتصوير في نفس الأماكن التي يتم فيها تصوير الدراما التركية، وهي استوديو Beykoz  حيث تم تصوير أجواء الدباغات، ويتم عرض المسلسل أيضاً على منصة شاهد.

أما مسلسل “العربجي2” فهو من الأعمال الدرامية التي أثبتت حضورها هذا العام أيضاً، هو الجزء الثاني من مسلسل تاريخي كان في رمضان الماضي، ويتناول أحداثاً جرت أيام العثمانيين في دمشق. دراما اجتماعية شيقة ومسلية، تم العمل عليها بشكل محكم وأداء جيد للممثلين. المسلسل من إنتاج هيئة الإذاعة والتلفزيون السعودي لصالح التلفزيون السعودي وتنفيذ لشركة (غولدن لاين) تالا ونايف الأحمر اللذين انتقلا إلى دبي وأصبحت مركز أعمالهما.

عندما تكون شارة المسلسل أفضل من المسلسل نفسه

وعلى غرار 'أولاد بديعة' الذي لا تعرف جهته الإنتاجية، نجد مسلسلاً اسمه 'أغمض عينيك'. الذي هو باختصار دراما اجتماعية معاصرة يضم عددا كبيرا من الوجوه الفنية والمهمة والجديدة لكنه وقع في مطب الإطالة والاستسهال.  بعد أن تتابع أسماء فريق العمل على شارة المسلسل الطويلة بتفاصيل أنيقة، تجد جميع الأسماء باللغة العربية، ولكن فجأة باللغة الإنجليزية، وبخطوط صغيرة، تتعرف على فريق الإنتاج المجهول، وبعد البحث الطويل تحصل على بعض الأسماء الأجنبية تحت يافطة «رجال أعمال» منهم هنود يقيمون في دبي، ولكن  لا يُعرف المزيد عن مصدر تلك الأموال. المسلسل تم بيعه لتلفزيون رؤيا الأردني. هل أصبحت سورية مثل الصين سوقاً للصناعات الرخيصة؟ وهل الدراما السورية معروضة للبيع لمن يدفع أعلى سعر؟

.